فصل: (سورة السجدة: الآيات 12- 17).

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة السجدة: الآيات 12- 17].

{وَلَوْ تَرى إذ الْمُجْرمُونَ ناكسُوا رُؤُسهمْ عنْدَ رَبّهمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمعْنا فَارْجعْنا نَعْمَلْ صالحًا إنَّا مُوقنُونَ (12) وَلَوْ شئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكنْ حَقَّ الْقَوْلُ منّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ منَ الْجنَّة وَالنَّاس أَجْمَعينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفيَ لَهُمْ منْ قُرَّة أَعْيُنٍ جَزاءً بما كانُوا يَعْمَلُونَ (17)}.

.اللغة:

{تَتَجافى} تجافى: تنحى ولم يلزم مكانه يقال تجافى السرج عن ظهر الفرس وتجافى جنبه عن الفراش وقال في الأساس: جفاني فلان: فعل بي ما ساءني واستجفيته، والأدب صناعة مجفوّ أهلها، وجفت المرأة ولدها فلم تتعاهده، وثوب جاف: غليظ وقد جفا ثوبه، وهو من جفاة العرب، وجفا السرج عن ظهر الفرس، وجنب النائم عن الفراش وتجافى {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} وأجفاه صاحبه وجافاه، قال:
وتشتكي لو أننا نشكيها ** غمز حوايا قلّما نجفيها

ومن المجاز: أصابته جفوة الزمان وجفاوته. وللجيم مع الفاء خاصة الانكماش والجفاف يقال جف يجف من باب تعب جفافا وجفوفا: يبس ونشف والانكماش واضح في هذا المعنى، واجتف مافي الإناء: أتى عليه، وجفأ يجفأ من باب فتح النهر رمى بالزبد والقذى وجفجف الإبل: ساقها بشدة حتى ركب بعضها بعضا أي انكمش بعضها على بعض، وجفخ تكبر والمتكبر منكمش عن الناس ترفعا وتيها منه، وجفل القوم وأجفلوا هربوا مسرعين ووقعت في الناس جفلة إذا خافوا فانجفلوا وليس مثل الخائف في الانكماش والاسراع، وجفن الناقة: نحرها وأطعم لحمها في الجفان وجفن نفسه كفها عن الخبائث وتجفّن الكرم صار له أصل والجفنة بفتح الجيم القصعة الكبيرة والخمرة والبئر الصغيرة فما تطلقه العامة على جفنة الكرم له أصل صحيح.

.الإعراب:

{وَلَوْ تَرى إذ الْمُجْرمُونَ ناكسُوا رُءوُسهمْ عنْدَ رَبّهمْ} كلام مستأنف مسوق لاستحضار صورة المجرمين عامة يوم القيامة والخطاب لمحمد صلى اللّه عليه وسلم أو لكل أحد ممن يصلح له ولتجسيد الفظاعة التي حلت بهم. ولو شرطية وترى فعل مضارع فاعله مستتر تقديره أنت وإذ ظرف لما مضى من الزمن متعلق بتري وانما جاز ذلك لترقب وقوعه وتحققه نحو أتى أمر اللّه، وجعله أبو البقاء مما وقعت فيه إذ موقع إذا، والمجرمون مبتدأ وناكسو رءوسهم خبر وسيأتي سر التعبير بالجملة الاسمية في باب البلاغة وعند ربهم ظرف متعلق بمحذوف حال ومفعول ترى محذوف لأن الرؤية بصرية أي لو ترى المجرمين، وقد أغنى عن ذكره المبتدأ، وجواب لو محذوف أي لرأيت أمرا فظيعا لا يمكن وصفه، وأجاز الزمخشري أن تكون لو للتمني والمضي فيها وفي إذ لأن الثابت في علم اللّه بمثابة الواقع، وناكسو رءوسهم اسم فاعل مضاف إلى مفعوله.
{رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمعْنا فَارْجعْنا نَعْمَلْ صالحًا إنَّا مُوقنُونَ} الكلام مقول قول محذوف في موضع الحال أي قائلين وربنا منادى مضاف حذف منه حرف النداء وأبصرنا فعل وفاعل والمفعول محذوف أي أبصرنا صدق وعدك ووعيدك وسمعنا منك تصديق رسلك، وسمعنا عطف على أبصرنا ويجوز عدم تقدير مفعول أي صرنا ممن ببصر ويسمع وكنا من قبل صما وعميانا وهو جميل، فأرجعنا الفاء الفصيحة وارجعنا فعل أمر المقصود منه الدعاء ومفعول به ونعمل مضارع مجزوم لأنه جواب الطلب وصالحا مفعول به أو مفعول مطلق وان واسمها وخبرها.
{وَلَوْ شئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها} الواو عاطفة ولو شرطية وشئنا فعل وفاعل ولآتينا اللام واقعة في جواب لو وآتينا فعل وفاعل وكل نفس مفعول آتينا الاول وهداها مفعول آتينا الثاني.
{وَلكنْ حَقَّ الْقَوْلُ منّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ منَ الْجنَّة وَالنَّاس أَجْمَعينَ} الواو حالية ولكن مخففة مهملة فهي لمجرد الاستدراك وحق القول فعل وفاعل ومني حال ولأملأنّ اللام موطئة للقسم وأملأن فعل مضارع مبني على الفتح والفاعل مستتر تقديره أنا وجهنم مفعول به ومن الجنة متعلقان بأملأن والناس عطف على الجنة وقدم الجن لأن المقام مقام تحقير لهم وأجمعين تأكيد وسيأتي القول في معنى أجمعين هنا في باب الفوائد.
{فَذُوقُوا بما نَسيتُمْ لقاءَ يَوْمكُمْ هذا} الفاء الفصيحة أي إن نسيتم هذا كله فذوقوا، وذوقوا فعل أمر وفاعله وبما الباء حرف جر للسببية وما مصدرية والمصدر الاول مجرور بالباء والجار والمجرور متعلقان بذوقوا ومفعول ذوقوا محذوف تقديره العذاب ولقاء يومكم مفعول نسيتم وهذا صفة ليومكم أي المشار اليه.
{إنَّا نَسيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْد بما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} كلام مستأنف لزيادة إيلامهم ومقابلة نسيانهم اللقاء بنسيان أمضى وأنكى، وان واسمها وجملة نسيناكم خبرها وذوقوا فعل أمر والواو فاعل والجملة مقول قول محذوف أي ونقول ذوقوا وعذاب الخلد مفعول ذوقوا، وكرر الذوق مع مفعوله للتأكيد وتبيين المفعول المطوي للذوق، وبما جار ومجرور متعلقان بذوقوا وقدمر قريبا وكنتم كان واسمها وجملة تعملون خبرها.
{إنَّما يُؤْمنُ بآياتنَا الَّذينَ إذا ذُكّرُوا بها خَرُّوا سُجَّدًا} كلام مستأنف مسوق لبيان الذين إذا قرئ عليهم القرآن خروا سجدا وإنما كافة ومكفوفة ويؤمن فعل مضارع مرفوع وبآياتنا متعلقان به والذين فاعل وإذا ظرف مستقبل متضمن معنى الشرط وجملة ذكروا في محل جر بإضافة الظرف إليها والواو نائب فاعل وبها متعلقان بذكروا وجملة خروا جواب إذا وسجدا حال من فاعل خروا.
{وَسَبَّحُوا بحَمْد رَبّهمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبرُونَ} وسبحوا عطف على خروا وبحمد ربهم حال والواو حالية وهم مبتدأ وجملة لا يستكبرون خبر والجملة في محل نصب على الحال.
{تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَن الْمَضاجع} الجملة مستأنفة أو حالية أيضا وجنوبهم فاعل وعن المضاجع متعلقان بتتجافى.
{يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَممَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفقُونَ} جملة يدعون إما مستأنفة وإما حالية أيضا ويدعون ربهم فعل مضارع وفاعل ومفعول به وخوفا وطمعا إما مفعول من أجله وإما حالان وإما مصدران لفعل محذوف ومما متعلقان بينفقون وجملة رزقناهم صلة ما.
{فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفيَ لَهُمْ منْ قُرَّة أَعْيُنٍ جَزاءً بما كانُوا يَعْمَلُونَ} يجوز أن تكون الفاء عاطفة أي تتجافى جنوبهم ويدعون ربهم فلا، ويجوز أن تكون فصيحة أي إن حلول أحد أن يعلم مصيرهم وما أعد اللّه لهم من قرة أعين فلا يعلم. ولا نافية وتعلم نفس فعل مضارع وفاعل وما اسم موصول مفعول تعلم أي لا تعلم الذي أخفاه اللّه ويجوز أن تكون استفهامية في محل رفع مبتدأ وأخفي لهم خبره وعلى قراءة أخفي بسكون الياء تكون ما مفعول أخفي لأنه فعل مضارع وفاعله أنا وتكون ما الاستفهامية معلقة لمتعلم ولهم متعلقان بأخفي ومن قرة أعين حال من ما وجزاء مفعول مطلق لفعل محذوف أي جوزوا جزاء أو مفعول لأجله أي أخفي لهم لأجل جزائهم وبما متعلقان بجزاء وكان واسمها وجملة يعملون خبرها.

.البلاغة:

العدول عن الفعلية إلى الاسمية:
في قوله: {ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم} عدول عن الجملة الفعلية إلى الجملة الاسمية لتقرير ثباتهم على نكس رءوسهم خجلا وحياء وخزيا عند ما تبدو مثالبهم وهناتهم بصورة دميمة شوهاء تبعث على الهزء بهم والسخرية منهم كأنما استمر ذلك منهم، لا يرتفع لهم رأس، ولا يمتد منهم طرف.
وكذلك عدل عن الفعلية إلى الاسمية المؤكدة في قوله: {إنا موقنون} أي انهم ثابتون على الإيقان راغبون فيه بعد أن ظهرت لهم المغاب منادية عليهم بالويل والثبور.

.الفوائد:

التوكيد بأجمعين:
يجوز إذا أريد تقوية التوكيد أن يتبع كله بأجمع وكلها بجمعاء وكلهم بأجمعين وكلهن بجمع فتقول جاء الجنس كله أجمع والقبيلة كلها جمعاء والقوم كلهم أجمعون والنساء كلهن جمع، وقد يؤكد بهن وإن لم يتقدم كل نحو الآية المتقدمة وقوله: {لأغوينهم أجمعين}.

.[سورة السجدة: الآيات 18- 22].

{أَفَمَنْ كانَ مُؤْمنًا كَمَنْ كانَ فاسقًا لا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذينَ آمَنُوا وَعَملُوا الصَّالحات فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلًا بما كانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا منْها أُعيدُوا فيها وَقيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّار الَّذي كُنْتُمْ به تُكَذّبُونَ (20) وَلَنُذيقَنَّهُمْ منَ الْعَذاب الْأَدْنى دُونَ الْعَذاب الْأَكْبَر لَعَلَّهُمْ يَرْجعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ ممَّنْ ذُكّرَ بآيات رَبّه ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إنَّا منَ الْمُجْرمينَ مُنْتَقمُونَ (22)}.

.الإعراب:

{أَفَمَنْ كانَ مُؤْمنًا كَمَنْ كانَ فاسقًا لا يَسْتَوُونَ} الهمزة للاستفهام الانكاري والفاء عاطفة على محذوف يقتضيه السياق ومن مبتدأ وجملة كان صلة واسمها مستتر تقديره هو ومؤمنا خبرها وكمن خبر من وجملة كان صلة من الثانية وفاسقا خبر كان وجملة لا يستوون مستأنفة لا موضع لها من الاعراب ويستوون فعل مضارع مرفوع وفاعل ومتعلقه محذوف أي في المآل، وروي أنه صلى اللّه عليه وسلم كان يتعمّد الوقف على قوله: {فاسقا} ثم يبتدىء بقوله: {لا يستوون}.
قال الزجاج: جعل الاثنين جماعة حيث قال: لا يستوون، لأجل معنى من، وقيل لكون الاثنين أقل الجمع.
{أَمَّا الَّذينَ آمَنُوا وَعَملُوا الصَّالحات فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلًا بما كانُوا يَعْمَلُونَ} أما حرف شرط وتفصيل والذين مبتدأ وجملة آمنوا صلة وجملة عملوا الصالحات معطوفة على الصلة داخلة في حيزها فلهم الفاء رابطة ولهم خبر مقدم وجنات المأوى مبتدأ مؤخر، والمأوى المكان تلجأ إليه ويقال المأواة والمأوي، ونزلا حال من جنات المأوى أي حالة كونها مهيأة ومعدة لهم، والنزل بضمتين عطاء النازل ثم صار عاما فاستعماله بمعنى الفندق لا غبار عليه بل لعله أولى بالنسبة للفنادق الرفيعة لأن الفندق كقنفذ هو الخان كما في القاموس ويقال فيه الفنتق، قال ابن عباد هو خان السبيل لغة في الفندق وأنكره الخفاجي في شفاء الغليل قال شارح القاموس: وهو- أي كلام الخفاجي- غير متجه فقد قال الفراء سمعت أعرابيا من قضاعة يقول فتق للفندق وهو الخان، وبما صفة لنزلا وما مصدرية أو موصولية وكان واسمها وجملة يعملون خبرها.
{وَأَمَّا الَّذينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ} الواو عاطفة وأما شرطية تفصيلية كما تقدم والغالب تكريرها وسيرد في باب الفوائد إلماع إليها والذين مبتدأ وفسقوا صلة والفاء رابطة ومأواهم النار ابتداء وخبر والجملة خبر الذين.
{كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا منْها أُعيدُوا فيها وَقيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّار الَّذي كُنْتُمْ به تُكَذّبُونَ} كلما ظرف زمان متضمن معنى الشرط وقد تقدم القول في كلما كثيرا وأرادوا فعل وفاعل والجملة مستأنفة لبيان كيفية مأواهم فيها وأن وما في حيزها مفعول أرادوا ومنها متعلقان بيخرجوا وجملة أعيدوا لا محل لها وفيها متعلقان بأعيدوا وقيل عطف على أعيدوا والواو نائب فاعل ولهم متعلقان بقيل وجملة ذوقوا عذاب النار مقول القول والذي صفة للعذاب وجملة كنتم صلة وبه متعلقان بتكذبون وجملة تكذبون خبر كنتم.
{وَلَنُذيقَنَّهُمْ منَ الْعَذاب الْأَدْنى دُونَ الْعَذاب الْأَكْبَر لَعَلَّهُمْ يَرْجعُونَ} الواو عاطفة واللام موطئة للقسم ونذيقنهم فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة والفاعل مستتر تقديره نحن والهاء مفعول به ومن العذاب جار ومجرور متعلقان بنذيقنهم والأدنى صفة للعذاب والمراد بالأدنى عذاب الدنيا وما يستهدفون له من محن ونكبات، ودون ظرف زمان بمعنى قبل متعلق بمحذوف حال والعذاب مضاف إليه والأكبر نعت والمراد بالأكبر عذاب الآخرة ولعل واسمها وخبرها وجملة الترجي حالية والمراد بها ترجي المخاطبين كما قال سيبويه في تفسيرها.
{وَمَنْ أَظْلَمُ ممَّنْ ذُكّرَ بآيات رَبّه ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إنَّا منَ الْمُجْرمينَ مُنْتَقمُونَ} كلام مستأنف مسوق لبيان حال من قابل النعمة بالإعراض والإشاحة عنها ومن اسم استفهام معناه النفي مبتدأ وأظلم خبر وممن متعلقان بأظلم وجملة ذكر صلة لمن وبآيات ربه متعلقان بذكر وثم حرف عطف وتراخ وأعرض عطف على ذكر وعنها متعلقان بأعرض وسيأتي معنى التراخي في باب البلاغة وإنا إن واسمها ومن المجرمين متعلقان بمنتقمون ومنتقمون خبر إن.

.البلاغة:

1- ذكرنا فيما سبق أن لحروف العطف أسرارا لا يدركها إلا المبين، فلا يصح وضع بعضها موضع بعض للفوارق بينها، وكلمة ثم خاصة بالاستبعاد والتطاول في المدة وقد ناسب ذكرها في قوله: {ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها} لأن الإعراض عن الآيات مع غاية وضوحها وإشراقها مستبعد في حكم البداءة الثابتة وموازين العقول الراجحة. وقد رمق الشعراء سماء هذه البلاغة فقال جعفر بن علبة الحارثي فيما يرويه ديوان الحماسة:
ولا يكشف الغمّاء إلا ابن حرّة ** يرى غمرات الموت ثم يزورها

نقاسمهم أسيافنا شر قسمة ففينا ** غواشيها وفيهم صدورها

فقد شبه الداهية الغماء بأمر محسوس يغشي الناس ويغطيهم على طريق الاستعارة المكنية، وقال ابن حرة ليكون حفزا للسامع وتهييجا له على خوض الهيجاء وغمرات الموت شدائده وأهواله، والشاهد في قوله ثم يزورها استبعد أن يزور غمرات الموت بعد أن رآها واستيقنها لأن بين رؤية الأهوال المفزعة وبين الانحدار إليها برغبة تشبه الرغبة في لقاء المحبوب بونا بعيدا في العادة والعقل، وشبه السيوف ممتدة متوسطة بينهم بشيء تجري فيه المقاسمة على طريق الاستعارة المكنية ثم فرع على تلك المقاسمة أن لهم غواشيها أي ما يغشاهم منها وهي مقابضها أو لأنها زائدة على النصل فهي غاشية له ولأعدائه صدورها أي أطرافها المتقدمة منها وصدر كل شيء مقدمه، وعبر بفي دون اللام لأن في تفيد مجرد اشتمال الأعداء على الصدور لدخولها في أجسامهم واللام تفيد التملك وليس مرادا وإن كان مقتضى القسمة فلعله دفع توهمه بالعدول إلى في وذكرها أولا تمهيدا للثانية.
2- في قوله: {وأما الذين فسقوا فمأواهم النار} الآية، فن من فنون البديع لم يذكره أحد من الذين كتبوا في فنون البديع ما عدا ابن أبي الإصبع وهو الشماتة، وهو ذكر ما أصاب عدوك من آفات ومحن جزاء ما اقترفت يداه مع المبالغة في تصوير غمائه وما يتخبط به من أهوال وإظهار اغتباطك بما أصابه شماتة به وتشفيا منه، وفي هذه الآية من ضروب التشفي والشماتة ما لا يخفى، وهو شائع في القرآن وفي الشعر ومنه قصيدة فتح الفتوح لأبي تمام.

.الفوائد:

عود على أمّا:
{أَمَّا} بفتح الهمزة وتشديد الميم حرف شرط وتوكيد وتفصيل غالبا ويدل على معنى الشرط مجيء الفاء بعدها غالبا، ويدل على معنى التفصيل استقراء مواقعها وعطف مثلها عليها، ولابد لها من فاء تالية لتاليها إلا إن دخلت الفاء على قول قد طرح استغناء عنه بالمقول فيجب حذفها منه.